بدائل العقوبات السالبة للحرية في السياسة الجنائية المغربية
لقد عرف الفكر الجنائي التقليدي عددا من بدائل العقوبات السالبة للحرية تتناسب مع تطور الجريمة ونظرة المشرع الجنائي إلى الشخص الجاني. وبالتالي أجمعت المجتمعات الإنسانية اليوم على أن العقوبة الحبسية ليست وسيلة كافية لردع الجريمة، وأن هذا الردع لن يتحقق إلا بسلك طريق العلاج الكفيل بإعادة إدماج الجاني في المجتمع.
ومن هذا المنطلق، يتعين على السياسة الجنائية المغربية السير في هذا المسار على غرار الدول التي سبقتنا في هذا الميدان كما عليها أن تضع اللبنات الأولى لرسم سياسة جنائية تقوم على مبدأ العلاج السلوكي والأخلاقي للجاني، وذلك من خلال الاعتماد على نظام البدائل والسؤال المطروح هنا :
هل السياسة الجنائية المغربية قادرة على استيعاب نظام بدائل العقوبات السالبة للحرية ؟
سنحاول الإجابة عن هذا التساؤل من خلال كشف واقع بدائل العقوبات السالبة للحرية في التشريع المغربي (المطلب الأول) والآفاق المستقبلية لبدائل العقوبات السالبة للحرية في السياسة الجنائية المغربية (المطلب الثاني).
المطلب الأول : واقع بدائل العقوبات السالبة للحرية في التشريع المغربي
يمكن استجلاء الوضع الراهن للجزاءات الزجرية من خلال قراءة سريعة في القانون الجنائي المغربي الذي يجعل العقوبات إما عقوبات أصلية أو عقوبات إضافية.
فالعقوبات الأصلية هي تلك العقوبة التي يجوز الحكم بها وحدها دون أن تتوقف على الحكم بعقوبة أخرى كالإعدام والسجن المؤبد والحبس المؤقت والإقامة الجبرية والتجريد من الحقوق الوطنية والغرامة المنصوص عليها في الفصول 15 و 16 و 17 و 18 من القانون الجنائي والملاحظ أن العقوبات الأصلية تهيمن عليها العقوبات السالبة للحرية، إذ نجدها مسطرة بوضوح في الجنايات والجنح.
أما العقوبات الإضافية فتبقى عقوبات تكميلية، إذ لا يمكن الحكم بها وحدها وإنما تكون دائما تابعة للعقوبات الأصلية، وجعلها المشرع المغربي عقوبات تكتسي طابعا ثانويا، إذ غالبا ما لا تلجأ إليها المحاكم.
أما عن بدائل العقوبات السالبة للحرية، فنجد أن المشرع المغربي قد أخذ بفكرة البدائل في الميدان الزجري شأنه في ذلك شأن باقي التشريعات، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، فنجده ينص على الغرامة ووقف تنفيذ العقوبة إلى جانب جعل هذه الأخيرة نافذة ويعطي الحق للقاضي في الاختيار بينهما.
ولمعرفة مدى إمكانية اعتبارالغرامة ووقف التنفيذ بديلين للعقوبة السالبة للحرية يجدر بنا تناولهما في الفقرتين المواليتين: الغرامة (الفقرة الأولى) ونظام إيقاف التنفيذ (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : الغرامة
لقد نص المشرع المغربي في القانون الجنائي على الغرامة كعقوبة أصلية وتكميلية، كما نص عليها في بعض الحالات كبديل للعقوبة السالبة للحرية ذات المدة القصيرة وإن كان بشكل غير صريح، حيث أجاز المشرع للقاضي الحكم بعقوبة الغرامة كبديل للعقوبة الحبسية وخاصة في الجنح الضبطية بما في ذلك حالة العود وذلك طبقا للفصل 150 في فقرته الثانية من القانون الجنائي، أما فيما يتعلق بالمخالفات ولو في حالة العود، فقد أجاز المشرع للقاضي أيضا تطبيق الغرامة كبديل للاعتقال وذلك عملا بمقتضيات الفصل 151 من القانون الجنائي.
وعليه، نستنتج أن القانون الجنائي المغربي قد أخذ بعقوبة الغرامة كبديل للعقوبات السالبة للحرية في المخالفات والجنح وإن كان بشكل غير صريح كما أشرنا إلى ذلك، ولم يقرها في الجنايات. إلا أن الملاحظ أن نطاق تطبيق هذا البديل يبقى محدودا على الرغم من أهميته في معالجة مساوئ العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
الفقرة الثانية : وقف التنفيذ
يعتبر نظام وقف تنفيذ العقوبة من أهم السلط المخولة للقاضي الزجري في ميدان تفريد الجزاء وتشخيصه بحسب شخصية المجرم وظروفه، إذ بمقتضاه يسمح للمحكمة بعد أن تدين المتهم بالجريمة وتقدر العقوبة المناسبة، بأن تأمر بوقف تنفيذ هذه العقوبة، بشرط أن لا يرتكب المحكوم عليه جريمة أخرى خلال مدة معينة.
وقد نظم المشرع الجنائي المغربي أحكام نظام وقف تنفيذ العقوبة في المواد من 54 إلى 58 من القانون الجنائي، وأول ما يلفت النظر في هذا النظام هو أن المشرع المغربي قد صنفه كسبب من الأسباب المؤثرة على تنفيذ العقوبات في التشريع الجنائي المغربي (المادة 49 من القانون الجنائي، في حين يبدو هذا النظام في صورته الحقيقية بديلا للعقوبة السالبة للحرية ذات المدة القصيرة، لأن علته الأساسية تكمن في تجنب المساوئ المرتبطة بتنفيذ هذه العقوبات؛ يعني أن هذا النظام العقابي يقوم بإبعاد المجرم المبتدئ عن وسط السجون المفسد وقاية له من تأثير أي عوامل قد تقوده إلى جريمة أخرى؛ ثم تحقق لديه في الوقت نفسه إرادة التأهيل والتقويم.
إذا يمكن القول أن المشرع المغربي قد أخذ بوقف التنفيذ كبديل للعقوبة السالبة للحرية على غرار باقي التشريعات الأجنبية، إلا أنه يؤخذ عليه كونه لا يفرض التزامات على المحكوم عليه كما هو الحال بالنسبة للاختبار القضائي المعمول به في بعض الدول، مما يجرده من أهميته.
و خلاصة ما سبق، أن المشرع المغربي نص على الغرامة ووقف التنفيذ ولكنه لم يشر إلى إمكانية اعتبارهما كبدائل، وهذا ما فتح الباب أمام القضاء ليستخدم سلطته التقديرية، و الحكم بهما كبدائل للعقوبات وبالنظر لما حققته البدائل بالنسبة للتشريعات الحديثة، فإن المشرع المغربي يجب عليه التفكير في الأخذ بتلك البدائل وتفعيلها في منظومته القانونية لما لهذه البدائل من دور في تحقيق الإصلاح والمساعدة على تأهيل الجاني.
المطلب الثاني : الآفاق المستقبلية لبدائل العقوبات السالبة للحرية في السياسة الجنائية المغربية
إن التفكير في إدماج هذه البدائل في نظامنا الجنائي يرتبط بالاختيارات التي على سياستنا الجنائية نهجها. وفي هذا الإطار، نرى أن الانتقال من سياسة جنائية تتبنى العقوبة الحبسية كقاعدة إلى سياسة جنائية تستند إلى بديل للعقوبة الحبسية القصيرة المدة هو بمثابة خطوة رائدة في الاتجاه الصحيح الذي يسعى إلى تخليص منظومة العقوبات من هيمنة نظام العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة.
الفقرة الأولى : شروط إدماج بدائل العقوبات السالبة للحرية
إذا كان الغرض من البدائل هو إبعاد العقوبة الحبسية القصيرة المدة والبحث عن نظام للعقوبة يناسب حاجيات عالم اليوم، فإن أية محاولة من قبل المشرع المغربي لتبني بدائل العقوبات تعد في حد ذاتها بادرة مستحسنة، ولكي يتسنى ضمان إنجاز هذا المشروع، فلابد من توفير الشروط الضرورية لنجاحها، وهذا يتطلب ما يلي :
- إن التصدي للجريمة وضمان إعادة التأهيل والإدماج الاجتماعي للجاني يرتبط في الأساس بمشروع إصلاحي له علاقة بالمجال الجنائي، ويجب لفت النظر هنا إلى أن الحديث اليوم عن الإصلاح لا يعني أن الأنظمة الجنائية الحالية غير صالحة، وإنما يتعين تطوير هذه الأنظمة بهدف تكييفها مع معطيات الواقع الجديد.
- لابد أن تكون هذه البدائل متعددة ومتنوعة، وأن تمنح للقاضي اختصاصات واسعة لتيسير تطبيقها، وذلك حتى يتمكن من اختيار ما يجده ملائما لشخصية المجرم ومصلحة المجتمع، وعدم تفضيل بديل للعقوبة عن بديل آخر بحجة أن أحد البدائل يحظى بأهمية خاصة.
- إن اللجوء إلى البدائل يتطلب أن تحظى هذه البدائل بثقة المجتمع والجاني، فبالنسبة لهذا الأخير فإن مساس البديل بأحد حقوقه أو بحريته أو بماله كفيل بأن يشعره بخطورة سلوكه على المجتمع، أما بالنسبة للمجتمع يتطلب ثقة الرأي العام بدور هذه البدائل وإقناعه بحتمية هذا الاختيار في تحقيق الأمن والأمان المطلوبين.
- تحتاج البدائل إلى آليات لتطبيقها وذلك بتوفر الإمكانيات المادية والبشرية لكي تحقق أغراضها.
الفقرة الثانية : المقترحات الكفيلة بتحقيق الإدماج
إن إدماج العقوبات البديلة في سياستنا الجنائية المغربية يبقى أمرا مطلوبا حتى يتأتى السير في ركب التطور التي عرفته الأنظمة الجنائية المعاصرة، ولذلك نتقدم ببعض التصورات مع الأمل أن تجد موقعا لها في النقاش الدائر اليوم حول موضوع العقاب، وفي هذا الإطار، نرى أن أي إصلاح لمنظومة العقاب في إطار السياسة الجنائية يجب أن يأخذ بالخيارات التالية:
- إعادة النظر في التشريع العقابي الحالي على نحو يجعله مسايرا مع التطورات التي عرفتها بعض قوانين العقوبات لبلدان سبقتنا في هذا الميدان. ويتعين أن يتم ذلك، عن طريق تعديل النصوص القانونية وملائمتها مع المتغيرات الحالية، ويتوقف نجاح هذه العملية على أساس إعطاء الصلاحية والسلطة التقديرية للقاضي للبت في النوازل حسبما يراه صالحا وملائما.
- تعديل القوانين الجزائية في ضوء الإصلاح المرغوب فيه وذلك بهدف إضفاء الطابع الإنساني على العدالة الجنائية عملا بمبادئ احترام حقوق الإنسان.
- تزويد القضاة بكل المعارف العلمية لتمكينهم من تشخيص حالة الجاني ومعرفة دواعي جريمته، وهذا لن يتحقق إلا عن طريق التكوين المستمر والتثقيف في مجال علوم الإجرام.
- المبادرة بإصلاح المؤسسات السجنية، حتى يتسنى لها القيام بالدور المنوط بها في مجال التأهيل والإدماج، عوض أن تكون مؤسسة لتكريس الانحراف بفعل الظروف السيئة للسجون. كما أن على هذه السجون أن تتحول إلى مدرسة تربوية تعمل من أجل إصلاح الجناة وأن لا تغلق الأبواب في وجه من أبدى إرادة في تجاوز مرحلة الانحراف.
- يجب عدم تغيب منظمات المجتمع المدني بمختلف مكوناته من المشاركة والمساهمة في عملية الإصلاح، لأن الحوار والتنسيق معها يضمن نجاح تطبيق نظام العقوبة البديلة ويساعد المنحرف والمجتمع على القبول بحتمية هذا الاختيار والعمل على إنجاحه.
- وضع إستراتيجية محددة الأهداف تنطلق من برنامج معين يسخر له الإمكانات الضرورية ويتوفر على وسائل البنية التحتية والعامل البشري ويركز على رعاية الجانحين وإشراكهم في الأعمال الاجتماعية.
- إعطاء القاضي سلطة واسعة لتنفيذ العقوبة ومراقبة أوضاع المؤسسات السجنية، وتلقي التظلمات والشكاوى. هذه الصلاحية يجب أن تمتد إلى وضع يمكن القاضي من السماح للمعتقل بمغادرة السجن لمدة محددة بحراسة أو بغيرها حتى يتأتى له ربط علاقات اجتماعية سواء باستقبال أفراد أسرته أو الانتقال إليهم عند الضرورة، مع تخويله إمكانية رفع طلب إيقاف تنفيذ العقوبة إلى المحكمة أو تقديم طلب الإفراج المقيد بالشروط.
وعليه، تجب الإشارة إلى أن مسودة مشروع القانون الجنائي المغربي قد تضمن في مقتضياته العمل من أجل المنفعة العامة كبديل للعقوبات السالبة للحرية، وهي خطوة في إتجاه الحد من بعض الآثار السلبية للعقوبة. وهذا دليل على إعتراف المشرع بضرورة إدماج نظام البدائل في مجموعة القانون الجنائي المغربي.
خاتمة :
وخلاصة القول، إن التفكير في إيجاد بدائل للعقوبة السالبة للحرية التي تحاول السياسات الجنائية من خلالها تلافي ما يمكن أن يعتري هذه الأخيرة من نقص، والإسهام بالتالي في إثراء النقاش الدائر حول موضوع البدائل في أوساط الفقه المغربي، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير على نظرة المشرع إلى العقوبات التقليدية، والسعي نحو تبني عدد من البدائل في مشروع القانون الجنائي، أو فيما يستجد من القوانين الجنائية الخاصة التي بدأت وثيرة ظهورها تزداد مع تطور مناحي الحياة.
تعليقات
إرسال تعليق